بلاغة الأجوبة المسكتة"
من قديم والعرب يرون بلاغتهم في الإيجاز وروعة تعبيرهم في الكلام القليل العدد العامر بالمعاني والدلالات، وهي نظرة ترى في الإطناب -
أي كثرة الكلام والإطالة فيه من غير أن يتطلب المعنى ذلك -
عجزا عن الإبداع في القول
والإتيان فيه بكل ما يستوقف النظر المتأمل، من عبارة موجزة، لكنها - على قصرها - تجمع في ثناياها فيضا من الفكر والحكمة والبصر بالحياة والناس
ومن هنا كان قولهم المعروف: خير الكلام ما قل ودل.
ويتجلى جمال العربية أروع ما يتجلى من خلال ردودهم البليغة المسكتة
وهي مسكتة لأن سامعها يرمى بها فلا يحير جوابا ولا يملك نطقا
لأن إحكامها وصياغتها وطريقة صكها بهرته فأخرسته
ولأنها عادة تجئ على غير توقع من متقبلها فكأنه أصيب في مقتل
فابتلع دهشته وصمت.
ولعلنا لو اقتربنا من بعض نماذج هذه الردود المسكتة أو المفحمة كما يحلو للبعض أن يسميها - وكأنما وضع قائلها في فم من يسمعها فحما فلم يستطع النطق - لعلنا لو اقتربنا منها لتعرفنا على فن من فنون العرب البليغة في القول والمبارزة اللسانية، ولأدركنا كيف كانت صياغة العبارة العربية كصياغة الذهب، معيارا بمعيار، قيمة وجمالا وروعة أداء.
من أجمل هذه الأجوبة والردود المسكتة ما يروى عن الرسول الكريم، وقد سألته السيدة عائشة: متى يعرف الإنسان ربه؟
فأجابها الرسول الكريم: إذا عرف نفسه!
وقال له رجل: يا رسوله الله إني أكره الموت.
فقال الرسول الكريم: ألك مال؟
قال الرجل: نعم.
فقال الرسول الكريم: قدم مالك، فإن قلب كل امرئ عند ماله.
ومعنى قوله: "قدم مالك" أنفقه في سبيل الخير وعمل الصالحات حتى إذا لم يبق لك إلا القليل لم تحرص علي الحياة.
ويروون أن الأحنف بن قيس- أحد حكماء العرب وحلمائهم في الجاهلية - سئل ذات يوم: ممن تعلمت الحلم؟
فقال: تعلمته من قيس بن عاصم المنقري، حضرته يوما وهو محتب - أي جالس على مؤخرته وقد ضم فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعه ليتكئ - يحدثنا إذ جاءوا بابن له قتيل وابن عم له كتيف - أي مقيد - فقالوا: هذا قتل ابنك هذا، فلم ينقطع قيس عن حديثه، ولا حل حبوته - أي فك جلسته - حتى فرغ من الحديث، فالتفت إليهم وقال
: أرعبتم الفتى - أي أخفتموه.
ثم أقبل عليه فقال: يا بني، نقصت عددك، وأوهنت ركنك، وفتت في عضدك، وأشمت عدوك، وأسأت إلى قومك.
ثم التفت إلى قومه وقال: أين ابني فلان؟ فوقف بين يديه، فقال له: يا بني، قم إلى ابن عمك فأطلقه، وإلى أخيك فادفنه، وإلى أم القتيل فأعطها مائة ناقة لأنها غريبة فلعلها تسلو عنه.
ويروون أن يحيى بن خال قال لشريك: علمنا مما علمك الله يا أبا عبدالله.
فقال له شريك: إذا عملتم بما تعلمون، علمناكم ما تجهلون.
وقالت زوجة يحيى بن طلحة لزوجها: ما رأيت ألأم من أصحابك إذا استغنيت لزموك، وإذا أعسرت تركوك.
فقال: هذا من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال القوة منا عليهم، ويفارقوننا في حال الضعف منا عنهم.
ويروون أنه قيل لابن السماك الأسدي - أيام معاوية -: كيف تركت الناس؟
قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف له، وظالم لا ينتهي.
ولقي الإمام الحسين بن علي الشاعر الفرزدق وهو في مسيرة إلى العراق، فسأله الحسين عن الناس، فقال الفرزدق: القلوب معك، والسيوف عليك والنصر في السماء.
وقيل للخليل بن أحمد - واضع علم العروض والقوافي-: مالك تروي الشعر ولا تقوله؟
فقال: لأني كالمسن، أشحذ ولا أقطع. وسئل مثل هذا السؤال مرة أخرى فقال: يأباني جيده وأبي رديئه.
ويروون أن الخليفة العباسى المنصور كتب إلى عبدالله جعفر الصادق يقول له: لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ فقال له عبدالله: ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك بها ولا نعدها نقمة فنعزيك لها.
فأجابه المنصور: يا عبدالله، تصحبنا لتنصحنا، فقال عبد الله: من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك.
ويروون أن رجلا استمع إلى الشاعر العباسي أبي تمام وهو ينشد قوله: لا تسقني ماء الملام، فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي.
فأعد له كأسا وهو يقول - على سبيل التهكم والسخرية-: ابعث إلي في هذه الكأس بقليل من ماء الملام، فأجابه أبو تمام من فوره: لا أبعث إليك حتى تبعث إلي بريشة من جناح الذل أكتب بها - وأبوتمام يشير إلى قوله تعالى: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.
وهو رد في غاية الإعجاز، ودرس في فن الأجوبة المسكتة التي نطالع بتأملها صفحة فريدة من جمال العربية في لغة التعبير.