عائد إلى جنين
الإهداء: إلى من عشقتها وعشقتني، فألبستني ثوباً من العزة والإباء، إلى حبيبتي جنين......
إلى من فاض دمه فروى أرض جنين العطشى في هذا الزمن القحط حتى من الرجال......
إلى من تزوج من امرأة تدعى البندقية فرافقها ورافقته وعاهدها أن لا يفارقها حتى الموت......
إلى من جعل من قلبه ملجأً لامرأة حسناء مغتصبة تدعى القدس.....
اهدي قصتي هذه أو إن شئت قل مرثيتي....
طوال الطريق كان هو ونفسه في حديث دائم؛ يسألها فتجيبه، يحدثها عن مدى اشتياقه لجنين؛ لناسها، لأسواقها، لبيوتها، لشوارعها، لأزقتها ويسألها قائلاً: (( ماهي أخبارها؟ وهل مازالت كما تركها قبل ست سنوات؟ وكيف سيكون شعوره عندما تلامس أقدامه أرضها الدافئة كشمس الشتاء الجميلة ؟ التفت إلى السماء فكان ت متلبدة بغيوم سوداء، وأسراب من الطيور المهاجرة تزين الأفق، أعجبه منظرها سيما أنها كانت مهاجرةً لتعود إلى أوطانها، كحاله فقد كان عائداً إلى وطنه الذي طالما أحس به بعيداً،هناك خلف الجبال والبحار، فقد كان يشعر بأن النجوم والقمر أقرب إليه من وطنه النائي، وها هو الآن يعود إليه بعد غياب طويل. جلب انتباهه صوت حزين كصوت العويل يأتي من مذياع الحافلة:
أناديكم واشد على أياديكم ................ أبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم.................
تلك الأغنية التي طالما سمعها ورددها بل وحفظها عن ظهر قلب حتى أصبحت صديقةً للسانه، لقد اقترنت تلك الأغنية عنده بالحزن والألم حتى صارت بالنسبة له أنشودة الموت، تتابعت كلمات الأغنية، أحس بالاختناق، قال بصوت مذبوح: تناديهم! تنادي من ؟ وتشد على أيدي من؟ يا صديقي، إنك كمن ينادي في مقبرة للأموات ثم ضحك ضحكة يصاحبها الحزن والقهر.
توقفت تلك الأغنية وجاء صوت آخر من المذياع، لقد كان صوت المذيع بدأ المذيع بالتحدث، سمع كلاماً كثيراً،لكن لم يعلق في ذهنه سوى عبارة واحدة(( استشهاد مقاوم في جنين)) لقد كان وقع تلك العبارة عليه كمطارق تضرب رأسه،كان ذلك الخبر بمثابة عبارة الاستقبال الأولى له، عادت به ذاكرته إلى عامين ماضيين؛ عندما زاره صديقه فسأله عن أحوال جنين فقال له حينها
( جنين ؟! ماتت)) لقد اقترنت صورتها عنده بصورة الموت، ست سنوات مضت وهو يفكر بتلك المأساة التي تدعى جنين وهاهو على بعد بضعة أمتار معدودة يتحقق من تلك الصورة التي رسمها في خياله.
تابعت الحافلة المسير وكانت تصدر صوتاً غريباً كصوت البوم الذي ينعق، فقد سارت مسافات طويلة وصعبة، لفت انتباهه بعض كلمات كتبت بالعبرية على إحدى الجدران وكان بجانب ذلك الجدار كلب ينبح وأشواك كثيرة، صعق عندما رأى ذلك المشهد المرعب، تساءل بدهشة : هل لُقحت تلك الأرض بغير اللغة العربية؟! ولكن عاد السرور إلى قلبه عندما قرأ عبارة كتبت على لافتة بلغة الضاد السحرية(( أهلاً وسهلاً بكم في جنين))
وأخيراً وصل إلى جنين، نزل من الحافلة بسرعة كبرق خاطف، وما إن عانقت قدماه الأرض التي طالما حن إليها حتى أحس بإحساس غريب، سار في شوارعها و كان الصمت والسكوت يسكن أرجاءها، وكأن طاعوناً فاتكاً قد أصابها أو عاصفة جعلتها كعصف مأكول، تابع مسيره ولم يرَ أحداً إلا حجارة منتثرة ونار اً تستعر في شوارعها وبقايا رصاص ودم، وغربان تحوم في أجوائها ولم يسمع إلا نعيق تلك الغربان ودوي انفجارات ومدافع، جثا على ركبتيه مذهولا، تساءل: هل أنا في حقيقة أم كابوس؟!، ثم ردد عبارات جنائزية: إيه يا جنين ليته كان كابوساً ........ نظر إلى كل شيء من حوله، إلى جبالها فقد كانت جدباء كرجل هرم، إلى سهلها الذي كان مكفهرا جافاً، إلى أزقتها التي كان يطوف فيها ليل نهار هو وأصدقاؤه – الذين استشهد أكثرهم- أراد أن يكسر ألمه وحسرته، أخذ يردد عبارة ذلك الشاعر:
لا أنت أنت ولا الديار ديار..........
تساءل مواسياً نفسه: هل أبكيك؟ هل أرثيك؟ هل أقف على أطلالك الحزينة؟ ولكني لست شاعراً ............. ليتني كنت كذلك
توقف، التفت، تضخم الشعور بالألم لديه، فقد أحس بأن جنين تنكره ولا تعرفه كمن أصابه مرض فأنساه ذاكرته، صرخ عالياًً (( لا تنكري وجهي)) أدرك حينها أن صديقه كان محقاً عندما أخبره أن جنين قد ماتت. كانت رائحة الموت- التي تنتشر في أرجائها- تزكم انفه، سمع صوتاً حزيناً تقدم صوب ذلك الصوت، فرأى مجموعة من الرجال، أدرك أن هذا الصوت لم يكن سوى نحيب وعويل، اقترب منهم، ألقى نظرة ، فرأى حجارةً ملطخة بالدم وورود ملقاة عليها، لقد كان ذلك مكان استشهاد ذلك المقاوم الذي سمع نبأ استشهاده عندما كان في طريقه إلى جنين، غادر الرجال المكان، بقي أمام هذه الدماء وحيداً، انحنى ثم جلس وقبل تلك الأرض التي ثمة فيها ما يستحق التقبيل، سالت أنهار من دموعه وامتزجت بذاك الدم الذي خضب الأرض.
أحس بأن جنين لم تعد سوى مدينة بائدة ، تتجول الأشباح في شوارعها الحزينة وتشتعل ألسنة اللهب فيها صباح مساء وتتصارع هي والموت وتلفظ أنفاسها الأخيرة وقريباً سيكون احتضارها الأخير.
هذا ما نزفه قلمي ففاض بـأنهار من الحبر
بقلم : محمد جرادات